- مدخل إلى علم النفس: الفيزيولوجيا وظهور علم النفس التجريبي PDF
- مادة: مدخل الى علم النفس
- الأستاذ: نبيل عبد الصمد
- دروس علم الاجتماع الفصل الأول
مقدمة:
مند بداية الفكر الفلسفي كان من الواضح أن معرفتنا بالكون تعتمد على بعض الفهم للعقل بوصفه أداة المعرفة. ولطالما ناقش الفلاسفة المشاكل النفسية لعملية المعرفة بكثير من المهارة والفطنة، فكانت الفلسفة إذن هي الممر الطبيعي المباشر إلى علم النفس إلا أن الطب قد ساهم فيه أيضا من حين إلى حين. كان أبقراط (Hippocrates 460-370 قبل الميلاد) هو القائل بمذهب الأمزجة الأربعة الكلاسيكية التي قامت على مر العصور بمهمتها في خلق فهم أفضل للطبيعة الانفعالية للإنسان. وكان لوك نفسه طبيبا. وأدى التقدم السريع لعلم وظائف الأعضاء خلال القرن 19، إلى جعل الطب يبدو – أكثر من أي وقت مضى – أنه قد أصبح الطريق الأفضل لتناول الموضوع.I . ظهور السيكوفيزيولوجيا
كان الفيسيولوجيون العاملون في الجهاز العصبي، مدفوعين بموضوع بحثهم في الجهاز العصبي، فصاروا علماء نفس وظائفي (سيكوفيزيولوجيين) وعلماء نفس. لكن ضل دائما من الصعب، نوعا ما، تحديد المجالات المختصة بكل من علم النفس والفيزيولوجيا تحديدا دقيقا: يشهد على ذلك وجود فرع متوسط بينهما هو السيكوفيزلوجيا. يتناول التمييز بينهما درجة العمومية في ردود الفعل التي يتناولها الدرس، إذ يبدأ مجال العالم النفساني، مبدئيا، عندما يكون الموضوع الدراسة واقعا برمته تحت تغيرات الوسط. إن مهمة الجهاز العصبي هي بالضبط إيجاد التنسيق والتكامل بين ردود فعل الموضوع المدروس وبين المثيرات التي تصيبه. (1925/ 1857، Sherrington .) ويفهم إذن كيف يصطدم الفيزيولوجي (عالم الوظائف العضوية) الذي يدرس الجهاز العصبي، بالمشاكل التي تهم أيضا العالم النفساني، وكيف أيضا، من وجهة نظر تاريخية، استطاعت السيكولوجية التجريبية أن تحصل، في جملة ما حصلت عليه عند نشأتها، على بعض المسائل وبعض النتائج وبعض المناهج التي ابتدعتها الفيزيولوجيا التي وصلت قبلها إلى درجة العلم التجريبي.II ـ تطور علم وظائف الأعضاء:
في هذا الصدد تم اكتشاف تنظيم الأنسجة العصبية من خاليا بفضل التحسينات البصرية التي أدخلت على المجهر وبفضل التحسينات الكيميائية في طرائق التلوين، كما تم إثبات، من طرف ريماك Remak أن المادة الرمادية في الدماغ هي مادة خلوية. وفي سنة 1889 اكتشف كاجال Cajal وحدة الخلية العصبية (العصبة/ العصبون neurone ) ودور أماكن الاتصال بين العصبات (الوصلات synapses .) وهي اكتشافات كان لها انعكاس على توجه الأفكار في علم النفس: فاكتشاف الخلايا في الجهاز العصبي، وخصوصا في الدماغ، قد مكن من تقديم نوع من "النموذج" التشريحي للنظريات التي أتى بها علماء النفس الساعين لتحليل الظواهر إلى "عناصر" كان يجب البحث عن قوانين ترابطها. وكان من جراء القدرة على قياس سرعة التيارات العصبية أن أمكن الوصول إلى مناهج في الدرس مثل منهج دراسة "زمن رد الفعل" (هلمولتز).
من المهم أن ندرك، على مستوى تنظيم أعلى، أن فيزيولوجيا الحركة قد سبقت فيزيولوجيا الاحساس. لأن الحركة، بالواقع، حادث قابل للوضع تحت الملاحظة بغير مشقة، بخالف ما هو عليه حال الاحساس الذي يبدو وكأنه ليس سوى "تجربة مباشرة" تتعلق بالفرد وحده. هذه الصعوبة المنهجية التي أمكن، كما سنرى، التغلب عليها، قد تفسر بأن دراسة الاحساس هي التي تكون قد رسمت الحدود التي تقف عندها المناهج الفيزيولوجية، وحددت الولوج إلى مجال آخر هو مجال علم النفس.لقد تقدمت المعارف المتعلقة بالقسم الأكثر تعقيدا من الجهاز العصبي، خلال الفترة التي نما فيها علم النفس العلمي. فالدماغ ظهر أوال، وبوضوح، كعضو يلعب دورا أساسيا في التفكير. هكذا لم يعد "الفكر/ الروح" مجالا محصورا فقط بالعالم الميتافيزيقي. وهذا أل نه ذو كيان مادي، فيصبح درسه تشريحا فيزيولوجيا موضوع اهتمام وعناية. لكن طريقة سير عمل الدماغ كانت تفسر وفقا لمقتضيات الحال، بمذاهب مختلفة. فالبعض كان يعتبر الدماغ كعضو موحد تلعب مختلف مناطقه نفس الدور. وقد دافع عن مثل هذا الطرح علماء مثل فلورنس (1824 )P. Flourens و لاشلي.
وعرف علم فراسة الدماغ الذي نادى به غال، والذي بموجبه يمكن تقي يم مواهب الفرد بحسب شكل جمجمته، ازدهارا كبيرا قبل أواسط القرن 19 .وقد دحض هذا الاتجاه علماء مثل فلورهس سنة 1832 .من جهته أثبت )بروكا 1824 (Broca 1880 / أن قدم التلفيف الثالث الجبهي من شق الدماغ الأيسر يشكل "مركز النطق". وقام علماء آخرون يعينون مراكز محركة وحواسية وذلك في السنوات التي عقبت سنة 1870 .هذه الدراسة لمراكز القشرة (اللحائية) أوضحت بشكل مباشر بعض المشاكل السيكولوجية، كالتمييز بين الادراك والاحساس. إن الطرائق التي استعملت في الفيزيولوجيا لتسجيل التنفس أو النبض وغيرهما ...، ستستعمل بصورة واسعة من قبل علماء النفس وبالأخص في دراسة الانفعال.
III ـ مخاض ظهور علم النفس التجريبي:
يعود الفضل في الأعمال التي ساهمت في إيقاظ الوعي باستقلال علم النفس، إلى علماء ألمان، خاصة في السنوات التي تلت سنة 1860 ،تاريخ نشر كتاب: عناصر السيكوفيزياء لفنكر Fechner .كان فنكر (1801/1887 )عالما المعا في كل من الفيزياء والرياضيات. وبعد أن أصيب بأزمة صحية خطيرة، أصبح منشغلا بالبحث عن المعادلة المكونة للعالقة بين الروح والمادة. فبحث في العالقة بين المنبه الخارجي لأعضاء الحس (نور، صوت..) وبين الاحساس الحاصل بواسطة هذا المؤثر، وهو إحساس داخل نطاق النفس. وهذا القانون هو الذي أتاح ل فنكر إمكانية إيجاد حل لمسألة العالقة بين قياس الإثارة وقياس الإحساس. وهذه الأعمال ل فنكر هي التي كانت السبب في إدخال القياس إلى علم النفس.من جهته ذهب هلمولتز في اتجاه تكريس القياس في علم النفس. وكان هذا الأخير أستاذا للفيزيولوجيا في كونيغسبرغ، و نشر كتاب: "الموسع في فيزيولوجية البصريات" سنة 1850 .عارضا نظريته عن رؤية الألوان وعن الأحاسيس المصاحبة لرؤية الألوان.
لكن الرجل الذي قرر بصورة نهائية استقلال علم النفس التجريبي هو فونت (1920/ 1832 ) Wundt الذي وضع أسس علم النفس التجريبي، حيث نشر بين سنة 1858 و1862 مجموعة من المقالات كونت كتابه: "مقالات في نظرية الادراك الحسي" الذي يتضمن في مقدمته أول برنامج لمادة علم النفس التجريبي. كما أسس فونت أول مختبر لعلم النفس التجريبي سنة 1879 في ليبيزيغ. نتيجة لكل هذه الأبحاث تقرر التمييز بين الحساس الذي هو مجرد نتيجة إثارة عضو لحاسة معينة وبين الإدراك الذي هو أخذ علم بالأشياء وبالحوادث الخارجية.
يرتكز مذهب فونت على الثنائية وعلى نظرية التوازي بين الجسد والروح. فعلم النفس ذو موضوع هو التجارب المباشرة للفرد التي هي تجارب نلجها عن طريق الاستبطان فقط. وهذا المنهج يقوم على أن يطلب إلى الفرد ذاته أن يصف ما يفكر فيه أو يحس به.IVـ ظهور القياس في الدراسات النفسية:
الدراسات التجريبية للسيرورات العليا: منذ سنة 1879 كان غالتون (1911/1812 ) F .Galton ،وه عالم انجليزي، قد شرع في استعمال الاستمارة questionnaire لكي يحصل على إفادات عدد وفير من الأشخاص عن طبيعة "الصور العقلية" )البصرية والسمعية وغيرهما( التي تبعثها بعض الكلمات في أذهانهم.لكن فيلسوفا ألمانيا كان ذا ثقافة علمية، أبنغهوس '(1909/1850 ) Ebbinghaus هو الذي سيطبق لأول مرة وبشكل ممذهب، الطريقة التجريبية، على سيرورة "عالية" هي الذكاء. فاقترح سنة 1897 تطبيق منهج ل"ريازة" ذكاء تلاميذ في مدينة برسلو. وكان ذلك بأن طلب إليهم إكمال نص حذفت منه بعض الكلمات أو ذي نقائص معينة.
غير أن الأثر الأوضح يعود، في هذا المجال، إلى عالم فرنسي هو ألفرد بينيه (1911/1857) A. Binet ،ففي مجال الذاكرة، يعاكس بينيه هذا أبنغهوس من حيث استعمال العتاد، ذلك أنه يستعمل الأفكار، لا المقاطع الخالية من المعنى.
ولم تكن هذه النزعة الرامية إلى درس لعبة الذاكرة في الظروف الطبيعية العادية إلا تمظهرا لاتجاه عقلي عام يخالف النزعة الاصطناعية ونزعة التجزئة إلى عناصر (العناصرية) في مجال علم النفس التجريبي الألماني.
ولقد سبق أن وجد هذا الاتجاه في كتاب ألفرد بينيه "المدخل إلى علم النفس التجريبي" سنة 1894 ،وفي مقال له مع ف. هنري حول "علم النفس الفردي"، ولقد أشار فيه إلى ضرورة استعمال الاختبارات المنوعة والمرغبة والمكيفة حسب الوسط الذي ينتمي إليه الفرد، دون الالتجاء إلى الآلات المعقدة والتجهيزات الخاصة. وقاده هذا الاتجاه إلى إجراء تجاربه في المدارس بالذات ال في المختبرات. كما قاده ذلك أيضا، أثناء دراسته لقياس الذكاء، إلى ترك قياسات "مقاييس الجمجمة أو الرأس" ometriqueshalCep في سبيل اعتماد "سلم" من الاختبارات الصغيرة التي ال تبعد كثيرا عن المسائل التي يمكن أن تطرحها الحياة المألوفة. ويتيح تعقيد هذه الاختبارات المتزايدة، تصنيف الأولاد وفقا لدرجات نجاحهم.
خاتمـة:
تعرضت نظرية فونت للانتقاد على اعتبار أنها تشكل طريقة ذاتية تعتمد على رأي الشخص نفسه و لايمكن تعميمها، بالإضافة إلى أنها تعتمد على رأي الباحث نفسه ورؤيته وحالته النفسية. حاولت المدرسة الوضعية مع وليام جيمس مثال أن تقدم مقاربة علمية وموضوعية لدراسة الأحاسيس؛ حيث ركزت على وظائف الدماغ وتقسيماته، كالتفكير والأحاسيس والانفعالات؛ حيث إن المنطقة الجبهية مثال تتم فيها عمليات التفكير والتخيل والكلام والكتابة والحركة، وفي وسط الدماغ منطقة السمع وتفسير الأحاسيس، وفي المنطقة الخلفية للدماغ يقع الجهاز البصري، ووظيفته تفسير الأحاسيس البصرية، أما المخيخ فهو المسؤول عن توازن الجسم والتنفس وعمليات الهضم وضربات القلب والدورة الدموية.... إلخ.ثم بعد ذلك ظهر انتقاد آخر للمدرستين معتبرا: "إن كان على علم النفس أن يكون علما صحيحا ومستقال ال يجب أن تتم دراسة ما ال يمكن رؤيته أو ما هو غير ملموس وما كان افتراضيا، وذلك ألنها مجرد افتراضات ال يمكن إثباتها علميا"، ومن العلماء المتأثرين بالوظيفية الأمريكي جون واطسون الذي قال: "يجب دراسة السلوك الظاهر للإنسان أي ما هو ملموس ويمكن رؤيته".