- أسس علم الاجتماع
- إعداد: د. الطايعي
يكشف لنا تاريخ العلوم الاجتماعية و الإنسانية أن ثمّة هناك مراحل و شروط كانت من وراء التأسيس العلمي للسوسيولوجيا، من خلال تحديديه لموضوعه بدقّة و لمنهجه. إلاّ أنّ هذا التأسيس سبقته إرهاصات في التفكير الاجتماعي ارتبطت عموما بالتفكير الفلسفي و ما عرفه من نظريات و اتجاهات. لكن الاجتماع الإنساني لم يصبح موضوع تفكير علمي إلاّ بعد فترات لاحقة، كانت بدايتها مع ابن خلدون الذي نبّه إلى وجود هذا العلم و ساهم في تحديد موضوعه من خلال ما صرّح به باكتشافه لعلم مستقلّ أسماه بعلم العمران البشري لم يتكلّم به السّابقون إذ قال: " و كأنّ هذا علمٌ مستقلٌّ بنفسه، فإنّه ذو موضوع، و هو العمران البشري و الاجتماع الإنساني، و ذو مسائل، و هي بيان ما يلحقه من العوارض و الأحوال لذاته، واحدة بعد أخرى. و هذا شأن كلّ علم من العلوم وضعياً كان أو عقلياً ". و قال أيضاً: "اعلم أنّ الكلام في هذا الغرض مستحدث الصّنعة، غريب النّزعة، أعثرَ عليه البحثُ، و أدّى إليه الغوص .... و لَعَمري لم أقف على الكلام في منحاه أحدٌ من الخليقة، ما أدري هل ألِغفلتهم عن ذلك وليس الظنّ بهم، أو لعلّهم كتبوا في هذا الغرض و استوفوه ولم يصل إلينا."ص 33. كما أنّه لم يكتفِ بذلك بل دعا إلى استكمال النظر في هذا العلم و إتمام ما نقص منه و ذلك في قوله:" و لعلّ من يأتي بعدنا ممّن يؤيّده الله بفكر صحيح و علم مبين، يغوص في مسائله على أكثر ممّا كتبنا". لكن ابن خلدون على الرّغم من استشرافه لهذا العلم و أسبقيته إلى التفكير في خفاياه، لم يؤسّس معه جيلا خلدونيا يخلفه ويطوّر ما بدأه و يتمّم ما أسّسه.".
وبذلك تشكّلت نظريات تقوم خلفياتها المعرفية على إقامة تناظر بين السوسيولوجيا و الفيزياء أو البيولوجيا، هذا التناظر الذي جعل من بعض النظريات تبحث عن خصائص التشابه بين العالَم الطبيعي و العالم الاجتماعي، و البحث عن قانون يحكم الظاهرة الاجتماعية على شاكلة الظواهر في العالم الطبيعي أو الفيزيقي.
فإذا كانت الفيزياء تسعى إلى دراسة قوانين الطّبيعة، فإنّ الأولى لبناء علم الاجتماع، ستسعى بجعله علما يدرس القوانين التي يخضع لها المجتمع، نفس الشّيء ستعرفه محاولات تأسيس علم الاجتماع الشّكلي في ألمانيا، و التي حاولت أن تستوحي المنهج الرّياضي في إقامة علم الاجتماع، وقولها بضرورة اقتصار هذا العلم على دراسة أشكال الظّواهر الاجتماعية وصورها العامّة بغضّ النّظر عن مضامينها الإختبارية الفعلية، وهي محاولة تريد إعطاء علم الاجتماع صبغة علم مستقلّ يدرس العلاقات القائمة بين الظّواهر، مثلما تفعل الميكانيكا النّظرية و الرّياضيات اللتين لا تحتويان سوى على مفاهيم مجرّدة و قواعد عامّة يظهر نفعها أثناء تطبيقها في العلوم الجزئية الأخرى.
يتّفق العديد من دارسي علم الاجتماع أنّ التّأسيس الفعلي للسوسيولوجيا تمّ خلال ق 19، و أنّ هذا التّأسيس اطّبع بأطروحات ثلاثة روّاد أساسيين هم: أوغست كونت (1792ـ1857)، و كارل ماركس (1818ـ1883)، و ألكسيس ديطورفيل (1805ـ1859). و يشير ريموند أروند كوّنوا أفكارهم خلال ق 19، أي جعلوا موضوع كتاباتهم، الوضعية التي آل إليها المجتمع الأوروبي خلال هذه الفترة، و قد عملوا على تبيان علامات الأزمة التي بدأت تظهر وقتئذ على المجتمع الحديث، لكنّ تفسيرهم لهذا المجتمع وإلى مظاهر الأزمة فيه، عرف اختلافا في وجهة نظر كلّ منهم.. فأوغست كونت رأى بأنّ هذا المجتمع هو مجتمع صناعي يتميّز باختفاء البنيات الفيودالية و التّفكير الغيبي، وكارل ماركس رأى بأنّه مجتمع رأسمالي يتميّز بصراع بين قوى الإنتاج و ما يترتّب عنه من صراع طبقي، أمّا دورفيل، فرأى أنّه مجتمع يتحدّد بخصائص الديمقراطية. وهذا الاختلاف هو ناتج في المنطلقات الفكرية و الفلسفية لكلّ منهم.
سنتناول في هذا الدّرس أهمّ الرّوّاد، خاصّة الذين كان لإسهاماتهم تأثير مباشر على تأسيس علم الاجتماع و على بناء موضوعه و منهجه.أوغست كونت و فلسفته الوضعية
رأى كونت في تحليله الاستاتيكي للمجتمع أن الأسرة هي النّواة الأولى للمجتمع و يجب أن تكون لذلك وحدة الدّراسة، لأنّها أول خليّة في جسم المجتمع و أوّل ثمرة للحياة الاجتماعية. و المجتمع الإنساني يتكوّن في نظره من أسر لا من أفراد. الفرد فكرة مجرّدة في نظر علم الاجتماع و كل قوّة اجتماعية تنتج عن تعاون يتفاوت نطاقه سعة أو ضيقا، أس عن تضافر النّشاط بين عدد كبير أو صغير من الأفراد. و القوّة الطّبيعية هي القوّة الوحيدة التي يمكن أن تكون فردية محضة. و إذا كانت الأسرة هي العنصر الأول في علم الاجتماع الخاص بالاستقرار، فإنّ هذا العنصر بذاته يتركّب برغم ذلك من أشخاص مستقلّين.
يشير كونت أن الفكر البشري يمرّ في تطوّره من ثلاث حالات: اللاهوتية و الميتافيزيقية و الوضعية. فخلال الحالة اللاّهوتية عرف فيها التّفكير البشري ميله إلى تفسير الظّواهر بالرّجوع إلى أسباب خرافية أو خيالية أو أسطورية. كما أنّ لهذه المرحلة كما يصفها كونت أقسامها الهامّة. يبدأ القسم الأول بما يسمّيه بالفيتيشية أو الوثنية Fétichisme و خلالها يتمّ التّعامل مع الأشياء المادّية و كأنّها حيّة لها مشاعرها و أغراضها، و القسم الثّاني هو مرحلة تعدّد الآلهة Polythéisme و خلالها يتمّ تصوير الآلهة و كأنّها قوى خفيّة أو شبه خفيّة تتحكّم بجميع أصناف الظّواهر، أمّا القسم الأخير فسمّاه بطور التّوحيد Monothéisme و يتميّز بظهور المسيحية.
أمّا الحالة الوضعية، و هي المرحلة الأخيرة في التطوّر الفكري البشري، و فيها يدرك العقل البشري استحالة الوصول إلى حقائق مطلقة. كما أنّه تخلّى عن البحث عن علّة الأشياء و غايتها النهائية، واكتفى باكتشاف القوانين التي تسير عليها الظّواهر المختلفة. و البحث عن القوانين معناه البحث عن العلاقات الثابتة التي تنظّم الظّواهر في تعاقبها و توافقها.
و يطبّق كونت تصوّره لتطوّر العقل البشري على تطوّر المجتمعات الإنسانية، و يقول أنّه لا يمكن فهم تطوّرها إلاّ إذا وقفنا على تاريخ التطوّر العقلي، فهو يجعله المحور الأساس الذي تدور حوله مظاهر النّشاط الاجتماعي، و أيّ تطوّر يطرأ على الفكر يظهر أثره في جميع نواحي الحياة الاجتماعية، فهو يرجع كلّ تغيير اجتماعي في أيّ نشاط إلى التغيّر الذي يحدث في التّفكير. كما أنّ العلوم و المعارف التي ذكرها مرّت بهذا التطوّر، فهو يقول : إنّ علم الفلك، المؤلّف أوّلا و قبل كلّ شيء من وقائع عامّة، بسيطة، مستقلّة عن العلوم الأخرى، قد وصل إلى المرحلة الوضعية قبل بقيّة العلوم، و تلته الفيزياء الأرضية، ثمّ الكيمياء، و أخيرا الفيزيولوجيا. و يشير كونت أنّ هناك علوما لا زالت وقتئذ خارجا عن الفلسفة الوضعية، كما أنّه لم يذكر الظّواهر الاجتماعية على الرّغم من أنّها تصنّف مع الظّواهر الفيزيولوجية، فهو يقول: " إنّ الظّواهر الاجتماعية تتطلّب تصنيفا متميّزا لأهمّيتها و صعوبتها معا. فهي أكثر جميع الظّواهر تفرّدا و تعقيدا و اعتمادا على العلوم الأخرى.
كما يجعلها موضوع علم يعتبره العلم الذي تكتمل به سلسلة علوم الملاحظة و هو علم الفيزياء الاجتماعية، و يقول عنه إنّه العلم الذي يحتاج إليه النّاس الآن أشدّ الحاجة، كما جعله الهدف من عمله الفكري. و أطلق عليه فيما بعد السوسيولوجيا، و اعتبره العلم الذي سيواكب المرحلة الوضعية. فهو يرى أنّه إذا كان الهدف من تنظيم المجتمع على قاعدة العلم، فإنّ السوسيولوجيا هي العلم الكفيل بالقيام بذلك، حيث جعله العلم الذي يدرس المجتمع برمّته في جميع مظاهره و مقوّماته. و هي رؤية منسجمة مع فلسفته الوضعية التي تعطي الأولوية للكلّ على الجزء، كما أنّها تقوم على تقديم الاجتماعي على الفردي من منطلق أنّ النّظام الاجتماعي يؤثّر على غيره من الأجزاء. و يقول في هذا الصّدد: " إنّ الوضعية لا تقرّ حقّاً غير حقّ القيام بالواجب، و لا تقرّ واجباً غير واجبات الكلّ اتّجاه الكلّ، لأنّها تنطلق دائما من وجهة نظر اجتماعية، و لا يمكن لها أن تقبل بمفهوم الحقّ الفردي، فكلّ حقّ فردي هو عبثي بقدر ما هو غير أخلاقي.". كما أنّه حدّد موضوع الفيزياء الخاصّة بالظّواهر الاجتماعية، حيث يقول : إنّني أعني بالفيزياء الاجتماعية ذلك العلم الذي له موضوع خاص هو دراسة الظّواهر الاجتماعية المعنية بنفس الرّوح التي تُدرس بها الظّواهر الكونية و الفيزيائية و الفيزيولوجية، من حيث كونها موضوعا للقوانين الطّبيعية الثّابتة. « J’entends par physique sociale, la science qui a pour objet propre, l’étude des phénomènes sociaux considérés dans le même esprit que les phénomènes astronomiques, physiques et physiologiques. C'est-à-dire, comme assujettie, à des lois naturelles invariables dont la découverte et le but spéciale de ses recherches » .
يخلص سان سيمون في مذكّرته عن علم الإنسان أنّ الفيزيولوجيا التي يكون علم الإنسان جزءا منها، يجب أن تُدرس تبعا للمنهج الذي تسير عليه العلوم الفيزيقية الأخرى، فالفيزيولوجية الاجتماعية عنده هي المرادفة لعلم الاجتماع باعتبارها دراسة المجتمع خلال عمله. و لهذا يقول جورفيتش خلال انتقاده لعلم الاجتماع عند سان سيمون أنّه يتميّز بالخلط بين علم الاجتماع (علم الإنسان) أو الفيزيولوجيا الاجتماعية كما كان يُسمّيه، وبين فلسفة التّاريخ، ممّا جعله يبشّر بمفهوم الفترة الوضعية التي يقوم فيها الهرم الاجتماعي من تلقاء نفسه و حيث لا يظهر أي صراع.
و يمكن تفسير السرّ في هذا الانفتاح إلى كون الوضعية وضعت حدّا بين الوضعية العلمية و ما سبقها من تحوّل من مرحلة التّفكير الدّيني و الميتافيزيقي، و أنّ هذا التّحوّل حسب سان سيمون هو أمر واقعي يتّفق مع السّير العام لتقدّم العقل البشري.